جناية الحكومات الأوروبيّة على شعوبها

لا شك أن عوامل عديدة قد تظافرت لتوصل هذه الفئة من المنتجين في الاتحاد الأوروبي إلى حدود الغضب، رغم أنهم فئة مدللة ومحميّة بمقاييس الزراعة العالمية، ولكن البحث عن جذور الأزمة تأخذنا دائماً إلى ذات فبراير/شباط قبل عامين عندما غزت قوات الجيش الروسى الجزء الشرقي من الأراضي الأوكرانية. عندها اصطفت الحكومات الأوروبيّة وراء الولايات المتحدة لدعم أوكرانيا فتبنت، بلا تبصّر في العواقب، عشر جولات من العقوبات الاقتصاديّة ضد روسيا، التي طالما كانت مصدراً للطاقة (النفط والغاز والفحم) والعديد من المواد الأولية الأخرى بأسعار رخيصة سمحت للاقتصادات الأوروبيّة بالازدهار والمنافسة على مستوى العالم طوال عقود. وبغض النظر عن الدّوافع السياسية العميقة وراء هذا الخيار، إلا أنّ الأمر بدا اندفاعاً أعمى وراء مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية، فلم تتخذ النخب الأوروبيّة الحاكمة أي خطوات لامتصاص الخلاف الروسي الأوكراني، وساهمت بتبعيتها شبه المطلقة لواشنطن في إفشال مفاوضات بين الجانبين، كان يمكن لها إن لم تمنع اندلاع الحرب أن تختصر مداها. انعكاس الحرب وما لحق بها من عقوبات على الاقتصادات الأوروبيّة كان كارثياً. فتضخمت الأسعار بشكل صاروخيّ، فيما أدى إغلاق طرق التجارة في البحر الأسود إلى تدخل الاتحاد الأوروبي لرفع القيود عن الواردات من أوكرانيا، مما سمح لمنتجاتها الزراعية بإغراق الأسواق الأوروبية. لقد انخفضت أسعار محاصيل البلدان المجاورة لأوكرانيا مثل المجر وبولندا ورومانيا، فأصبح المزارعون المحليون غير قادرين على بيع محاصيلهم، وبحلول ربيع العام الماضي 2023، كانت الجرارات تغلق الطرق البولندي نفسها، التي كانت تغص بالمتطوعين الذين يرحبون باللاجئين الأوكرانيين قبل عام من ذلك. الحرب جيدة فقط لصناعة الأسلحة
إلى الضحايا من العسكريين والمدنيين، فإن الحرب في أوكرانيا جلبت كساداً واسعاً وتضخماً إلى كل ركن من أركان أوروبا تقريباً، ومست برفاهية السكان وقدرة مختلف القطاعات الاقتصاديّة على المنافسة، باستثناء قطاع وحيد: صناعة الأسلحة ومعدات القتل. ثورة أصحاب الجرارات الزراعية ليست في النهاية سوى رأس جبل الجليد الظاهر من غضب متراكم في المجال الأوروبيّ كلّه. وإذا لم تسارع الحكومات والنخب الأوروبيّة إلى البحث عن صيغة للسلام في شرقي القارة، فإن قطاعات أخرى، لا سيما الصناعية، قد تحذو حذوهم، وتفتح الباب مشرعاً لفوضى واسعة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد