حين يُقتل الأستاذ وتُدفن المدرسة

في زمن باتت فيه المدرسة ساحةً مفتوحة للعنف، وفي مشهد يصعب تصديقه، استيقظنا على فاجعة مروعة: تلميذ يجهز على أستاذته داخل المؤسسة التعليمية. حدث مأساوي لا تهتز له فقط النفوس، بل ترتعد له أسس التربية بأكملها. لم يكن الأمر لحظة غضب عابرة، بل انفجارًا عنيفًا لأزمات صامتة ظلت تتراكم في زوايا المدرسة، بعيدًا عن اهتمام السياسات، وعن أعين المجتمع.

إننا لا نرثي فقط أستاذة راحت ضحية العنف، بل نرثي صورة المدرسة، نرثي حضور الأستاذ، نرثي المعنى الذي كان للتعليم في وطن كان يرى في المعلم شمعة تُضيء لا تحترق في صمت.

في هذا السياق، وصلتني رسالة من الصديق البروفيسور إسماعيل هموني  يترجم فيها صرخة الأستاذ عبد اللطيف كيداي، لم تكن مجرد تعزية، بل شهادة مؤلمة وتحليلًا عميقًا لِما آل إليه واقعنا. أترككم مع الرسالة كما وردت:

حين يُغتال المعنى وتُداس القدوة
عبد اللطيف كيداي، عميد كلية علوم التربية.

لقد استوقفني هذا الحدث الفاجع، لا فقط بصفته واقعة مأساوية، بل بما يثيره فينا من قلق عميق، وارتباك وجودي، وتساؤل مرير حول ما آل إليه حالنا كمجتمع.
أن تُقتل أستاذة على يد أحد تلامذتها…
فالأمر لا يتعلق فقط بجريمة، بل بانكسار.
انكسار في العلاقة التي كانت، يوما، جوهر العملية التربوية: علاقة الثقة، والرغبة في التعلم، والاعتراف بالأستاذ كمنارة، لا كخصم.
لا يمكن قراءة هذا الحادث المأساوي كتجاوز فردي، بل إنه مؤشر صارخ على تحولات بنيوية تصيب نسيجنا المجتمعي في العمق.
لقد انهارت تدريجيا سلطة الرمز، سقطت صورة الأستاذ في عيون كثيرين، هل لأن الأستاذ تغير، أم أن محيطه من تغير، فاختلت القيم، وتراجع الدعم المؤسساتي، وتفرقت المسؤوليات حتى تلاشت.
أسأل نفسي – كما أسألنا جميعا –
أي مجتمع هذا الذي يربي أبناءه على الاحتقار بدل التقدير؟
أين أخطأنا حين لم نعد نعرف كيف نحب أساتذتنا؟
كيف صارت المدرسة نفسها مجالا للعنف بدل أن تكون حصنا ضده؟
من أفرغ التربية من بعدها الإنساني، وحولها إلى معركة بلا معنى؟
إنني في هذه اللحظة، لا أستطيع أن أنظر إلى ما جرى بعين الحياد.
أنا جزء من هذا الحقل التربوي، ومن هذا الهم الجماعي.
ولذلك، لا يكفي أن نحزن، بل علينا أن نحاسب أنفسنا، كمؤسسات، كفاعلين، كمجتمع.
علينا أن نعيد التفكير من الجذور: في دور المدرسة، في موقع الأستاذ، في خطابنا الإعلامي، في نماذج القدوة التي نصنعها، وفيما نعلمه فعلا لأبنائنا: هل نملأ عقولهم بالمعرفة، ونغفل عن غرس احترام الإنسان والحياة في نفوسهم؟
إن مقتل هذه الأستاذة هو جرس إنذار.
وهو لحظة فارقة، إما أن نرتقي فيها إلى مستوى الوعي والمسؤولية، أو ننحدر أكثر في مسار التفكك الرمزي.
لهذا، أقولها اليوم بمرارة وصدق: إن لم نضع المدرس في قلب مشروعنا المجتمعي، فلسنا فقط نخسر شخصا… بل نخسر المستقبل أيضا.
رسالة بلون الدم، ونبرة من وجع المعلم

لم تكن كلمات العميد كيداي مجرد رد فعل أكاديمي، بل كانت نداءً يخرج من عمق الوجدان التربوي، صرخة في وجه لامبالاة خطيرة تهدد مستقبل الأجيال. لقد آن الأوان أن نعترف بأننا خذلنا المعلم، وتركناه يواجه الإهانات واللامعنى، في أقسام مكتظة، ووسط خطابات إعلامية سطحية، وسياسات تتهرب من الاعتراف بعمق الأزمة.

إن إكرام الأستاذ لا يكون بالتصفيق له في يوم عالمي، بل بجعل كرامته خطًا أحمر لا يُمس.
وإن التربية لا يمكن أن تقوم على المعرفة وحدها، بل لا بد أن تُبنى على الاحترام، على القدوة، وعلى إنسانية المعلم.

فهل نملك الشجاعة لإعادة المعنى لما فقدناه؟
أم سنكتفي، كعادتنا، بلعن الظلام بعد أن أطفأنا النور  بأيدينا ؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد