الولي مصطفى السيد: الخطاب الذي لم يُلقَ أبداً

في زمن إختلط فيه صوت البندقية بصدى الخيبة، كان الولي مصطفى السيد، قائد جبهة البوليساريو، يستعد لخطابه الأخير – خطاب ربما كان يمكن أن يغير مجرى تاريخ الصحراء بأكملها.

السمارة، نواكشوط، الجزائر العاصمة… كانت ستصغي في صمت، لكلمات رجل أدرك الحقيقة متأخراً، لكنها كانت الحقيقة الأهم.




خطاب لم يولد

كان الولي سيصعد إلى المنصة بملامح رجل أنهكته الحرب دون أن تهزم قناعاته، وبصوت مبحوح من طول الصراع، لكنه صلب بالإيمان بشعبه.

وربما كان سيبدأ كلماته قائلاً:


” يا أبناء الصحراء، إخوتي،
أحبتي.
جئتكم اليوم لا قائداً يلوّح بالبندقية، بل إنسانًا يحتمي بالحقيقة.
لقد أجرمنا حين ظننا أن النصر ينبت على جثث أهلنا.
أجرمنا حين صدقنا أن الحرب وحدها تصنع الحرية.
اليوم، وأنا أنظر في عيونكم، أدركت أن الوطن لا يُبنى بالرصاص، بل بالسلام العادل، بالكرامة المحفوظة.”



لكنه لم يُتح له أن يقولها.
رُسمت النهاية عند فوهة بندقية غادرة، وأسدل الستار على صوت كان يمكن أن يكون صوت الحكمة وسط زمن الجنون.



البيان الأخير… بقلم الشمعة الأخيرة

في تلك اللحظات، كتب الولي مصطفى السيد بيانه الأخير، بقلم مرتجف تحت ضوء شمعة، كأنما يخطّ وصية وداع.


إلى أبناء شعبي، إلى من حملوا أمل الحرية بين ضلوعهم…

لقد نظرنا بعيداً حين كان يجب أن ننظر إلى قلوبنا.
تركنا خلفنا آباء سقماً، وأمهاتٍ ثكالى، ومنازل خاوية تنعي أصحابها.

سرنا نحو صحراء خلاء، لا ماء فيها ولا حياة، مدفوعين بوهم نسجه الآخرون.

آن أن نوقف هذا النزيف. آن أن نبحث عن السلام الذي يصون كرامتنا.
آن أن نعود إلى أرضنا، نزرع بدل أن نحمل البندقية.

أمد يدي لكل يدٍ تسعى للسلام بشرف.
والله على ما أقول شهيد.”


تساؤلات الولي… من يمنح الشرعية؟

وسط ضجيج الصراع ومرارة الضياع، تساءل الولي مصطفى السيد بمرارة:


من منحنا نحن الشبان حق إسقاط شرعية أبائنا؟
من  أعطانا تفويضًا لننكر وجوه الأمهات ؟ كيف يمكن أن نقنع أبنائنا ونحن فقدنا جزءا من سلطتنا الأخلاقية بمعصية آبائنا؟

كيف رفعنا راية جديدة وقلنا: هذا وطننا، بينما الوطن الحقيقي كان ينزف خلفنا؟

تركونا نحبو على أعتاب الحياة، فتوهمنا أننا نستطيع إعادة خلق الصحراء على طريقتنا، كنا  كما كان  الدون كيشوت  يقاتل طواحين الهواء.

قاتلنا خيالات وأوهامًا، ظانين أننا نحارب طغيانًا، فإذا بنا نحارب ظل أنفسنا.

فما معنى الوطن إذن؟

أهو الأرض التي نمشي فوقها؟ أم حضن الأم التي تنتظرنا كل مساء؟
أهو صرخة مولود جديد بين يدي جدة هرمة؟ أم قبر أب دفناه بعيداً عنا لأننا كنا مشغولين بحلم أكبر من قلوبنا؟

أي وطن نبحث عنه، ونحن لم نحسن الحفاظ على الذي وُلدنا فوق ترابه؟”

رسالة حب ومعاتبة للعائدين

لم ينسَ الولي الذين عادوا إلى حضن الأرض بعد سنوات الشتات، فكتب لهم:



إلى الذين عادوا وألتحقوا بأرض الوطن  إلى العظمي إلى ولد سويلم، إلى الصاروخ خر، إلى كل من أدرك أن  دفىء الأرض خير من برودة المنافي،  أقول لكم: هل وجدتم الوطن غفور رحيم؟
الوطن لا يغلق أبوابه في وجه أبنائه مهما طال الشتات.

لكم عاتب القلب طويلاً، لكنه يصفح باسم الرمل الذي لا ينسى أبناءه.

عودتكم بلسم لجراحٍ لم تندمل، وعهدٌ بأن تبنوا وطناً يحفظ كرامة الجميع.”


رسالة إلى الذين قضوا نحبهم

وفي نبرة ملؤها الشفقة، كتب الولي إلى الذين قضوا نحبهم وهم يلاحقون السراب، كتب إلى رفيق دربه المحفوظ علي بيبا ودعا له،
طيبه للموت وأجعل فيه راحته….من بعد ماتعب الترحال والسفرا.
وكل الذين قضوا في معركة الأرحام :

” يامن ضاغت أرواحكم فوق كتبان الوهم….. ياجنود الصحراء المجهولين ….
لم تكونوا خونة، ولا كنتم آثمين.
كنتم فقط ضحايا لحلم أضاع الطريق.

أبكيكم اليوم بعيون لا تجف.
وأسأل الله أن يرحمكم، وأن يغفر لنا جميعًا ما اقترفت أيادينا حين غاب الرشد.”
وينظر إلى من تبقى من رفاق الدرب نظرة منكسر من يحاول الإعتذار: يإبراهيم إن أباك رفض المغادرة إلى دار البقاء، كان ينتظر عودتك،  إخوتك الذين لم ترى أشفقوا على حاله كإشفاق إخوة يوسف على أبيهم إذ إبيضت عيناه من الحزن وهو كظيم، كذلك كان أباك ، حتى شجرة الصبار في مسقط رأسك “تدركيت” رفضت أن تثمر وخرت قواها وهزمتها حشرة قرمزية، وانت السامي آما حان الوقت أن  تسمو بأفكارك وتعلم أن نخيل الدشيرة، واحة الدشيرة لم تعد تعطي ثمرا، ركضت وراء حلم تحرير أرض وقريتك اليوم ضيعات فلاحية ملاكها جاووا من خلف الحدود.


الوصية الأخيرة

وفي سطر أخير كتبه وهو يعلم أن الموت أقرب إليه من أي وقت مضى:


إلى شعبي الذي أحببته حتى الموت ….
لا تجعلوا البنادق مقابر أحلامكم، ولا تسمحوا للغربة أن تصير وطناً.

عودوا… ففي كل خيمة جزء من قلب وأخوات ينتظرن من يأخذ عزاء  من رحلوا، وفي كل قبر مجهول صرخة أرض تنتظر أبناءها.

سامحوني… فقد أدركت الحقيقة حين صار ثمنها روحي.”

كلمة أخيرة

هكذا رحل الولي مصطفى السيد، بطلقة في الظهر من بندقية غادرة بعد أن إكتشف أنه كان جزء من مخطط كتب بدماء عشيرته، ولم يسمع أحد خطابه الأخير، لكنه ترك خلفه تساؤلاً لا يزال يطوف سماء الصحراء:
من يمنح الشرعية للوطن؟ ومن يحميه من الضياع؟

بقلم: زرموح امبارك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد