الهندسة المدنية في خدمة العدالة المجالية والتنمية المستدامة: دور الخبير المدني في بناء مغرب الإنصاف والتوازن

الهندسة المدنية لم تعد مجرد تخصص تقني مرتبط بالبناء والتشييد، بل أصبحت اليوم مرآة لوعي مجتمعي وسياسي عميق، وأداة استراتيجية لإرساء العدالة المجالية وتحقيق التنمية المستدامة. في المغرب، ومع تسارع وتيرة التحولات الديموغرافية والاقتصادية، يبرز دور الخبير المدني أكثر من أي وقت مضى، ليس فقط كمصمم للبنى التحتية، بل كفاعل مركزي في صياغة مستقبل متوازن وشامل.

الخبير المدني اليوم لا يكتفي بإعداد التصاميم الهندسية وضمان السلامة التقنية للمشاريع، بل هو مطالب بفهم أوسع وأشمل للمجال، بحمولاته السوسيو-اقتصادية، وخصوصياته البيئية، وتطلعات ساكنته. فالهندسة المدنية، حين تفتقد إلى العدالة، تصبح أداة لإعادة إنتاج الهشاشة بدل معالجتها، وحين تغيب عنها الرؤية المجالية، تتحول إلى مشاريع مفصولة عن الواقع، لا تصمد أمام الزمن.

في مناطق كثيرة من المغرب العميق، لا تزال الفوارق المجالية صارخة. في بعض الجماعات، الطريق غير معبد، والماء بعيد، والمدرسة منسية. هنا بالتحديد، يتجلى دور الخبير المدني الواعي الذي لا يركّز فقط على الإنجاز بل على الأثر، الذي لا يحسب فقط الكلفة المالية بل الكلفة الإنسانية والاجتماعية.

الخبير المدني في خدمة التنمية الحقيقية هو من ينظر إلى الخريطة ليس بعين المركز، بل من الهامش. من يستحضر مفهوم “العدالة المائية” حين يصمم قنوات الري، ومفهوم “الكرامة الحضرية” حين يخطط لمشاريع الصرف الصحي، ومفهوم “الحق في التنقل” حين يدرس إمكانيات الربط الطرقي. هو الذي يشتغل على التفاصيل دون أن ينسى الرؤية الشاملة، ويضع الإنسان، وليس فقط الحجر، في قلب اهتماماته.

وقد أكد جلالة الملك محمد السادس نصره الله في أكثر من خطاب على أهمية تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، وعلى ضرورة استثمار الكفاءات والخبرات الوطنية لإعادة التوازن إلى الخريطة التنموية للمملكة. وهذه دعوة صريحة للمهندسين والخبراء المدنيين لكي يخرجوا من مكاتب الدراسات المغلقة إلى فضاءات المشاركة الحقيقية في القرار الترابي.

إن المغرب اليوم في حاجة إلى خبير مدني جديد، ليس فقط متمكنًا من الأدوات التقنية، ولكن منخرطًا في التحدي الوطني، مستوعبًا للرهانات البيئية، متنبهًا للتحولات المناخية، مدافعًا عن السكن اللائق، والماء النظيف، والطرقات الآمنة، والمرافق العمومية الكريمة.

الهندسة المدنية في هذا السياق، ليست حيادية، بل منحازة للمواطن، للوطن، للعدالة. وهي حين تنطلق من ضمير مهني حي، تصبح فعل مقاومة للهشاشة، ورهانًا على المستقبل.


علي تستاوت، خبير في الهندسة المدنية وباحث في التنمية المستدامة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد