لييج والترام: لحظة تاريخية تعيد تشكيل هوية المدينة
ليست كل القطارات تصل في موعدها، ولكن بعضها حين يصل، يغيّر مجرى مدينة. لييج، المدينة البلجيكية التي اختنقت بالانتظار لعقود، اختارت أن تعود للحياة على إيقاع السكة، لا ضجيج السيارات. من بعيد قد يبدو الترام مشروعًا تقنيًا عاديًا، ولكن من الداخل، من قلب الأحياء ومن صمت الأرصفة، نكتشف أن ما يحصل هو فعل مقاومة حضرية، إعلان تمرد ناعم على فوضى الخرسانة، ورغبة صادقة في استرجاع الإنسان لمساحته في المدينة. هذا ليس مجرد ترام، هذا مستقبل يُرسم على القضبان.
الترام الذي بدأ تشغيله التجريبي في أبريل 2025، ليس مجرد عربة تسير على سكك حديدية. إنه مشروع أعاد توزيع الفضاء العمومي، وأخرج المدينة من منطق السرعة والتلوث نحو منطق الانسيابية والتنفس الجماعي. وحده الترام، بتصميمه الصامت والكهربائي، قادر على خفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بآلاف الأطنان سنويًا. وحده القادر على سحب آلاف السيارات من شوارع كانت على وشك الانفجار.
لم يكن الطريق نحو الترام مفروشًا بالورود. تعطيلات، فيضانات، جائحة عالمية، وأثمان باهظة. ولكن رغم كل ذلك، صمد المشروع، وتدخلت الحكومة الوالونية بأكثر من 79 مليون يورو لتُعيد الأمل، وتُعلن أن هذا الخيار لم يكن ترفًا بل ضرورة حضرية.
الترام لم يُحدث ضجيجًا فقط على السكة، بل في كل دواليب التخطيط العمراني. تم استرجاع عشرات الهكتارات من المساحات العمومية، تم خلق أحياء بيئية جديدة، وتم فرض إيقاع مدني جديد: أحياء للمشاة، للدراجات، للضوء، وللحياة.
ما يحدث في لييج يُعدّ نموذجًا حضريًا قابلًا للتكرار. مدينة بلجيكية متوسطة الحجم تُقدم للعالم دروسًا في الإرادة، في البيئة، وفي إعادة الاعتبار للفضاء العام كمجال للعيش المشترك، لا مجرد ممر للمرور. وهذا النموذج، في جوهره، لا يختلف كثيرًا عن التجربة المغربية في الرباط والدار البيضاء، حيث أصبح الترام جزءًا من المشهد اليومي، يربط الأحياء، ويُقلّل من الضغط المروري، ويُسهم في خفض الانبعاثات. كما أن مدنًا مغربية أخرى مثل مراكش وأكادير وطنجة تتحرك بدورها في اتجاه تبني وسائل نقل مستدامة، تعكس التزامًا واضحًا بتوجه بيئي حضري جديد. ليست الترامواي مجرد وسيلة نقل، بل رؤية حضرية تنقل المدن من التكدس إلى التنفس، ومن الفوضى إلى التوازن.
علي تستاوت – خبير في الهندسة المدنية و باحث في التنمية المستدامة